بسم الله الرحمن الرحيم'
مدارك النَّظر في السّياسة
بين التطبيقات الشّرعية والانفعالات الحَمَاسية
تأليف
عبد المالك بن أحمد بن المبارك رمضاني الجزائري
قرأه وقرّظه
العلاّمة الشيخ: محمد ناصر الدين الألباني
والعلاّمة الشيخ: عبد المحسن بن حمد العبّاد البدر
تجد في هذا الكتاب
· تأصيلاً لقاعدة: الفتوى في النوازل السياسية قاصرة على المجتهد:
قال الله تعالى:{وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ}
وقال ابن القيم: " العالِم بكتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة فهو المجتهد في النوازل، ف
هذا النوع الذي يَسوغ لهم الإفتاء ويَسوغ استفتاؤهم ويتأدى بهم فرضُ الاجتهاد، وهم الذين قال فيهم رسول الله:
(( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدِّد لها دينها )) ".
· وبيانَ أنه لا يفتي في دقائق الجهاد إلا هو، وأنه يَحرُم استفتاء طلبة العلم فيها
ـ فضلاً عن غيرهم ـ مهما زعموا أنهم فقهاء الواقع:
قال ابن تيمية: " وفي الجملة فالبحث في هذه الدقائق ـ أي دقائق أحكام الجهاد ـ من وظيفة خواص أهل العلم .. ".
· وبيانَ أنه لو أفتى فيها مَن ليس في رتبة العالم المجتهد أفسد البلاد وأرهق العباد؛ لأن العالِم يشمّ الفتنة قبل وقوعها،
وأما غيره فلا يعرفها إلا إذا وقع فيها، وقد لا يعرفها:
قال الحسن البصري: " إن هذه الفتنة إذا أقبلتعرفها كلُّ عالم، و إذا أدبرت عرفها كلُّ جاهل ".
· وتحذيراً من مسالك الحركيين من الإسلاميّين الذين اتَّخذوا من السياسة جارحةَ صيد، واتَّخذها الأعداء آلةَ كيد:
قال عبد الحميد بن باديس: " فإننا اخترنا الخطة الدينية على غيرها عن علم وبصيرة ...
ولو أردنا أن ندخُل الميدان السياسي لدخلناه جهراً ... ولقُدناالأمّة كلها للمطالبة بحقوقها، ولكان أسهل شيءٍ علينا أن نسير بها على مانرسمه لها،
وأن نَبْلغ من نفوسها إلى أقصى غايات التأثير عليها؛ فإن ممانعلمه، ولا يخفى على غيرنا أن القائد الذي يقول للأمّة: (إنّكِ مظلومة فيحقوقك،
وإنّني أريد إيصالكِ إليها)، يجد منها ما لا يجد من يقول لها: (إنّكضالة عن أصول دينك، وإنّني أريد هدايتَك)، فذلك تلبِّيه كلها، وهذا يقاومهمعظمُها أو شطرُها ...".
· وتحذيراً من الحزبية التي فرّقت شمل المسلمين:
قال محمد البشير الإبراهيمي:
" أوصيكم بالابتعاد عن هذه الحزبيات التينَجَمَبالشّر ناجمُها، وهجم ـ ليفتك بالخير والعلم ـ هاجمُها،
وسَجَم علىالوطن بالملح الأُجاج ساجِمُها، إنّ هذه الأحزاب! كالميزاب؛ جمع الماءكَدَراً وفرّقه هَدَراً،
فلا الزُّلال جمع، ولا الأرض نفع! ".
· وتحذيراً من مسالك الثوار:
قال ابن خلدون:
" ومن هذا الباب أحوال الثوار القائمين بتغيير المنكر منالعامة والفقهاء؛ فإن كثيرا من المنْتَحِلين للعبادة
وسلوك الدين يذهبون إلى القيام على أهل الجَور من الأمراء، داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه،والأمر بالمعروف
رجاءً في الثواب عليه من الله، فيَكثُر أتباعُهموالمتشبِّثون بهم من الغوغاء والدهماء، ويُعَرِّضون أنفسهم
في ذلك للمهالك،وأكثرهم يَهلكون في تلك السبيل مأزورين غير مأجورين؛ لأن الله سبحانه لميَكتب ذلك عليهم ... ".
· وبيانَ مغبَّة الخروج على السلطان:
قال الحسن البصري:
" والله! لو أنّ الناس إذا ابتُلُوا مِن قِبَل سلطانهم صبروا، ما لبِثوا أن يرفع اللهُ ذلك عنهم؛
وذلك أنهم يَفزَعون إلى السيف فيوكَلُوا إليه! ووالله! ما جاؤوا بيوم خير قطّ!"، ثم تلا:
{وتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواودَمَّرْنا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوايَعْرِشُ.
(2)
عن طارق بن شهاب قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أميرالمؤمنين! إنكم تقرؤون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلَتْ لاتخذناذلك اليوم عيدا، قال: وأيُّ آية؟ قال: قوله: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْدِينَكمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} فقال عمر: " والله! إني لأعلماليوم الذي نزلت على رسول الله e والساعة التي نزلت فيها على رسول الله e: عشية عرفة في يوم جمعة" رواه أحمد والبخاري ومسلم.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: " فالنعمة المطلقة هي المتصلة بسعادة الأبد،وهي نعمة الإسلام والسنة ". ثم قال بعد ذكر النبيين والصديقين والشهداء والصالحين: " فهؤلاء الأصناف الأربعة هم أهل هذه النعمة المطلقة، وأصحابهاأيضا هم المعنيّون بقول الله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْوأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً}"( ).
قال أبو العالية ـ رحمه الله ـ: " قرأت المحْكَم بعد وفاة نبيكم e بعشرسنين، فقد أنعم الله علَيَّ بنعمتين، لا أدري أيهما أفضل: أن هدانيللإسلام، ولم يجعلني حَرورياً "( ).
أي نعمة الهداية إلى الإسلام من بين الملل الكافرة، ونعمة الهداية إلى السنة من بين الطوائف المبتدعة؛ وكانت بدعةُ الخوارج الحَروريين أشدَّها خطفاً للقلوب وترويعاً للمسلمين! والله العاصم.
ثم أما بعد، فقد أحكمَ الله U كتابه وأحسن تفصيله، وفصَّل لنا فيه كل ما ينفعنا ويضرنا، وهو القائل: {الــــر. كِتابٌ أُحْكِمَتْ ءاياتُهُ ثُمَّفُصِّلَتْ مِن لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} وقال: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُتَفْصِيلاً}، وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ تِبْياناً لِكُلِّشَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين}، وقال: {وأَنزَلَاللهُ عَلَيْكَ الكِتابَ والحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُن تَعْلَمْوَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً}، وقال: {وما لَكُمْ أَلاَّتَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكمْ ماحَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}.
وعن ابن مسعود t أن رسول الله e قال:» ليس من عمل يقرِّب إلى الجنة إلا قدأمرتكم به، ولا عمل يقرِّب إلى النار إلا قد نهيتكم عنه، لا يستبطئنّ أحدمنكم رزقه، إن جبريل عليه السلام ألقى في روعي أن أحدا منكم لن يخرج منالدنيا حتى يستكمل رزقه، فاتقوا الله أيها الناس! وأجملوا في الطلب، فإناستبطأ أحد منكم رزقه فلا يطلبه بمعصية، فإن الله لا يُنال فضله بمعصية « رواه الحاكم وغيره وهو صحيح.
وإذا كان النبي e بيَّن لنا الهدى وحثَّنا عليه، وبيَّن لنا الضلال وحذَّرنا منه، لم يبق لأحد عذر في الطمع في غير هذه الشريعة الكاملة، قال ابن القيم
ـ رحمه الله ـ: " وأما الرضى بنبيّه رسولاً: فيتضمن كمال الانقياد لهوالتسليم المطلق إليه، بحيث يكون أولى به من نفسه، فلا يتلقى الهدى إلا منمواقع كلماته، ولا يحاكم إلا إليه، ولا يحكم عليه غيره، ولا يرضى بحكم غيرهألبتة، لا في شيء من أسماء الرب وصفاته وأفعاله، ولا في شيء من أذواقحقائق الإيمان ومقاماته، ولا في شيء من أحكام ظاهره وباطنه، لا يرضى في ذلكبحكم غيره، ولا يرضى إلا بحكمه، فإن عجز عنه كان تحكيمه غيره من باب غذاءالمضطر إذا لم يجد ما يقيته إلا من الميتة والدم، وأحسن أحواله أن يكون منباب التراب الذي إنما يُتيمَّم به عند العجز عن استعمال الماء الطهور.
وأما الرضى بدينه: فإذا قال أوحكم أو أمر أو نهى، رضي كل الرضى، ولم يبق فيقلبه حرج من حكمه، وسلَّم له تسليما، ولو كان مخالفا لمراد نفسه أو هواها،أو قول مقلَّده وشيخه وطائفته "( ).
وكما أن الله أكمل دينه علماً، فقد أكمله عملاً؛ إذ كما لا يخلو زمن من قائم لله بحجته، فلا يخلو زمن من طائفة مؤمنة تعمل بهذا الدين، فعن حميد بن عبد الرحمن قال:سمعت معاوية خطيباً يقول: سمعت النبي e يقول: » من يُرِدالله به خيراً يفقِّهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي، ولن تزال منهذه الأمة أمة قائمة على أمر الله، لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتىيأتيهم أمر الله وهم على ذلك « متفق عليه.
ثم اعلم ـ أيها القاريء! ـ أن الذي دفعني إلى هذه الكتابة على الرغم من القصور، أنني رأيت شباب المسلمين يَرِدون مواقع الحِمام، يرشفون سمّه بسقي أيديهم ولا يُحِسّون بملام، فدعوتُ إلى صون العمل السياسي عن العبث الذي هو أحد أسباب هذا الواقع المشؤوم، بتأصيل احترام التخصص انطلاقاً من قاعدة: {وما مِنّا إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ}، ثم تنَفَّلتُ بضرب المثل بتجربة الجزائر؛ زيادةً في البيان وإمعاناً في الإعذار لذوي البصائر.
ولعلك واجد في هذه النافلة أخباراً لا تروقُك، أو لا يُصدِّقها ظنُّك، فتجاوزْها! فإن ذلك لا يضرّك؛ لأنني لست ممن يُحكِّم الواقع في الشرع الحنيف، وقِفْ عند القواعد العلمية؛ فإنها أصل هذا التصنيف، والله الموفق لسلوك هدي خير البرية.
ثم إنني شاكر للشيخ العلامة الألباني وللشيخ العلامة عبد المحسن العبّاد
ـ حفظهما الله تعالى ـ تفرُّغهما لقراءة هذا الكتاب المتواضع وحسن عنايتهما بالنصيحة للمسلمين، وشاكر لسائر المشايخ والإخوة الذين لم يبخلوا عليّ بإرشاداتهم وتنبيهاتهم القيّمة، فجزاهم الله خيراً.
وقبل الخوض في الموضوع، إليك تنبيهات سريعة على أصول مهمة، لا أستقصي بحثها وجمع أدلتها، وإنما هي لفت انتباه وتذكير.
(3)
الأصل الأول: الطريق واحد
اعلم ـ رحمك الله! ـ أن الطريق الذي يضمن لك نعمة الإسلام واحد لا يتعدد؛ لأن الله كتب الفلاح لحزب واحد فقط فقال: {أُولَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلاَإنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ المُفْلِحُون}، وكتب الغلبة لهذا الحزب وحده فقال: {وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا فَإنَّ حِزْبَاللهِ هُمُ الغالِبُون}.
ومهما بحثتَ في كتاب الله وسنة رسوله e، فلن تجد تفريق الأمة إلى جماعات وتحزيبها في تكتلات إلا مذموماً، قال الله تعالى: {ولاَ تَكُونُوا مِنَالمُشْرِكِينَ. مِنَ الَّذِين فَرَّقُوا دِينَهُمْ وكانُوا شِيَعاً كُلُّحِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُون}، وكيف يُقِر ربنا U أمة على التشتت بعدما عَصَمَها بحبله، وهو يُبرِّيء نبيّه e منها حين تكون كذلك وتوعَّدها عليه فيقول: {إنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَمِنْهُمْ في شَيْءٍ إنَّما أَمْرُهُمْ إلى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهمْ بِماكانُوا يَفْعَلُون}.
وعن ابن مسعود t قال: " خطَّ لنا رسول الله e خطا، ثم قال: » هذا سبيل الله«، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله، ثم قال: » هذه سبل، وعلى كل سبيل منهاشيطان يدعو إليه «، ثم قرأ: {وأنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيماًفَاتَّبِعُوهُ ولا تَتَّبِعُوا السُبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} " رواه أحمد وغيره وهو صحيح.
فدلّ هذا الحديث بنصه على أن الطريق واحد، قال ابن القيم: " وهذا لأنالطريق الموصل إلى الله واحد، وهو ما بَعث به رسله وأنزل به كتبه، ولا يصلإليه أحد إلا من هذه الطريق، ولو أتى الناسُ من كل طريق واستفتحوا من كلباب، فالطرق عليهم مسدودة، والأبواب عليهم مغلقة، إلا من هذا الطريقالواحد، فإنه متّصل بالله موصل إلى الله "( ).
قلت: ولكن كثرة بُنَيّاته العاديات تشكك فيه وتُخذِّل عنه، وإنما انحرف عنه من انحرف من الفرق استئناساً بالتَّعدُّد، وتوحُّشاً من التفرُّد، واستعجالاً للوصول، وجُبْناً عن تحمّل الطول؛ قال ابن القيم: " من استطال الطريق ضعُف مشيُه "( ).
والله المستعان